كانت قادرة على تحويل الغرفتين التلتان نسكن إلى جنة عدن، ولكنه عندما يعود إلى البيت إلى ما يريده هو أعني إلى نار الله الموقدة ولكن على الأرض، كنت وأمي قد عقدنا اتفاقاً ضمنياً على تبادل دور الضحية أمامه، يوما يضربها هي ويوما يضربني أنا، وكان حزام الجلد اللعين الذي يحيط بكرشه هو أداته المفضلة يرينا من خلالها قيمتنا الحقيقة التي يجب علينا أن نحتلها مسرورين فرحين.
ما الذنب الذي كنا نقترفه حتى نستحق هذه "المحبة" التي تجود بها علينا يداه ولسانه كل يوم؟ لست أدري
لكن ما أعمله تماماً هو أنني كنت أظن اسم والدتي هو "قحبة" حتى فترة لاحقة من عمري، لأن هذه الكلمة الوحيدة التي كان ينادي بها على أمي أو يناديني بها وأنا بين ذراعيه أتلقى لكماتهما أو بين قدميه أتلقى رفساتهما
واستمر الأمر على هذا الحال حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي سيظل في ذاكرتي حتى تفارق روحي اللعينة جسدي. عدت إلى البيت كما العادة لكنني لم أجد أمي في البيت أو بالأحرى لم أجد أحداً في البيت على غير العادة فبقيت أنتظر على درج البيت. مرت الساعة الأولى كئيبة بطيئة، حاولت مراراً أن أطرق الباب، ناديت لكن دون جدوى، أما الجيران فقد رآني العديد منهم أنتظر على باب البيت لكنّ أياً منهم لم يحاول التدخل لمساعدتي، فهم بحكم التجربة المريرة تعلموا قاعدة مهمة فيما يتعلق بعائلتنا وهي "فخار يطبش بعضه" وهذا ما طبقوه منذ أن انهال والدي بالضرب على جارة حاولت تخليص أمي من بين يديه ذات ليلة أكثر سوءاً وسواداً من المعتاد!
مرت الساعة تلو الأخرى دون أن تعود أمي ولم أكن أتأمل عودتها، حتى استيقظت في وقت ما على قدم والدي وهي توقظني بينما يقول لي: لِمَ تنام هنا يا ابن الكلب؟ اين أمك العاهرة أيها اللعين؟ أجبته بأنني لا أعرف.
فتح الباب ومضى إلى داخل الشقة التي كانت قد بدأت رائحة ما تفوح فيها، لا أدري ما هو الإحساس الذي راودني في تلك اللحظة، ما أذكره تماماً هو أن كل علاجات الدنيا لن تمكنني من نسيان صورة أمي المنطبعة في مكان ما في رأسي التي تستحق التهشيم هذه
كانت أمي نائمة داخل حوض الاستحمام، نصفها العلوي عار تماماً بينما يدها اليسرى ملقاة ساكنة خارج الحوض مختلطة بالكثير من الدم، توقفت عن كل شيء في حياتي لثوان، قلبي لم يعد ينبض، عيناي لا تقويان حتى على الرمش، ودماغي تعطل تماماً عن القيام بأي فعل، إلى أن دخل والدي الحمّام، عندها فقط فكرت في أنه ربما يكون قد قتل والدتي فصرخت كما يليق بمن رأى ما رأيته أن يفعل، صرخت لا بل اسمحوا لي أن أقول إنني انفجرت، أما والدي فصمت للحظات حيث إنه هو الآخر قد فوجئ بالمنظر الذي كانت عليه والدتي ولكن هذه الصدمة لم تطل فخرج من الحمام ممسكا بي من رقبتي شاتما لي ولأمي.
عشت بقية حياتي أنا ووالدا أمي، حيث إن والدي قد قرر التخلي عني، لم يكن جداي هما الجدان اللذان يحلم بهما كل طفل، إذ كنت أستشعر في نظراتهما إلي كراهية ممزوجة بالشفقة، لكنها على كل حال كانت أقل بكثير من تلك التي كنت أشعر بها تجاه والدي أو تلك التي كان هو يشعر بها تجاهي.
وبقي في حياتي التي لا يحق لي أن أصفها بالعادية سؤال واحد يقض مضجعي: لِمَ فعلت أمي ما فعلت؟
هل كانت تكرهني؟ لا، من المستحيل أن تكون كذلك، لكن ألم أقل من قبل إننا جميعا ممثلون؟ لا، من المستحيل أن تكون كذلك، هي أمي وإن كان في العالم طهارة ما فقد كانت أمي، وقد ارتحلت هذه الطهارة برحيلها. على الأغلب أن السبب كان والدي، لابد أنها ملت كل هذه القذارة التي كان يعاملها بها، ملت رؤيتي وأنا أهرس بين يديه، وملت ليالي الخميس التي كانت تصرخ وتبكي فيها وباب غرفتهما عليهما مغلق.
ظل هذا السؤال يراودني ويعشش في رأسي من غير أن اقتنع بالإجابة التي كنت أحاول ُمكرهاً أن أقنع نفسي بها، أقول مكرهاً لأن هذا السؤال بات رفيقي في حياتي اليومية، أحلم به ليلاً وأعيش معه نهاراً
حتى جاء ذلك اليوم الذي مات فيه والدي فعدت الى البيت الذي كنا نسكنه قديما لأفرغه مما لنا فيه، صحيح أنني لم أكن أريد أي شيء من تلك الذكريات السيئة التي عشتها في ذلك البيت لكنني تذكرت أنني قرأت في مكان ما عن أهمية مواجهة الانسان "على افتراض أنني إنسان حقاً" للأماكن التي عانى فيها من صدمات ما وأن هذه هي الطريقة الوحيدة لأجد سلامي الشخصي!
بالطبع لم أجرؤ على دخول الحمام، الشاهد على الاسوأ، لكنني تشجعت ودخلت غرفة نوم والديّ. كنت بحاجة إلى شيء من رائحة والدتي. صحيح أن آخر ذكرياتي معها كانت غاية في السوء إلا أنها هي الوحيدة في حياتي التي منحتني حباً غير مشروط، غير محدود. أخرجت ثيابها وعلبة كانت تحتفظ بها بصوري وإياها من أماكن كان والدي في أحيان ما يرتضي أن يأخذنا إليها لأجد رسالة منها مرسلة اليّ مؤرخة بذلك اليوم إياه.
وضعت يدي على رأسي كما يليق بعظمة المفاجأة، دقائق مرت علي ثقيلة كجبل، عشرات الأفكار مرت ببالي، ما الذي من الممكن أن تحتوي عليه تلك الرسالة؟ أمن المعقول أن يكون والدي قرأها؟ ما الذي تريدينه مني يا والدتي بعد كل هذه السنوات؟
حاولت استجماع بقايا الشجاعة في روحي وفتحت الرسالة بيدين مرتجفتين لأقرأ فيها التالي :
عزيزي:
لا أعرف من أين تأتيني الجرأة لأكتب لك ما ستقرؤه في هذه الرسالة لكنني أقدم على ارتكاب أمر خطير، ربما سيجعلك تكرهني سنوات لا أعرف عددها، لكنني أقسم لك يا (...) أنني لست أتخلى عنك، ولا أفعل ما أفعله الآن جبناً أو هرباً، ولكن التعب قد هد جسدي، وما حدث معي أو ما زال يحدث معي قد صادر روحي، والإنسان بلا روح هو جثة تسير على قدمين.
لا أعرف كيف من الممكن ان أخبرك بما سأخبرك دون أن تفهم هذا الكلام على انه دعوة لكي تكره والدك، تباً له فلتكرهه! ولتعلم انه هو السبب في كل الجحيم الذي عشته أنا وستعيشه أنت.
كنت أبلغ من العمر تسعة عشر عاماً عندما حدث ما حدث، كنت طالبة جميلة منفتحة على الدنيا، تعدني الحياة بالكثي?
? وأعدها أنا بأكثر، إلى أن حلت بي لعنة والدك، فعفواً بل هي لعنة السماء والأرض...
كنت عائدة إلى البيت من امتحان متأخر في الجامعة، وقد كنت مسرورة للغاية أنني قد أبدعت في الامتحان ولم يعنني كثيراً أن الوقت قد تأخر وأنه لابد لي من أن أستقل سيارة أجرة لأصل إلى البيت قبل غروب الشمس وإلا فان والدي لن يكون مسروراً
اللعنة! لو أنني كنت أعرف ما ينتظرني لكنت غامرت بغضب والدي وسروره على أن يحدث ما يحدث! أو لو أنني انتظرت حتى خروج إحدى صديقاتي من الامتحان حتى أعود إلى البيت معها! لكن لا، كنت متشوقة جداً كي أخبر والدتي بأن الامتحان كان أفضل مما توقعته وأنني ربما أكون الأولى على دفعتي إن سارت الأمور على ما يرام!