لأشيد على كلامه اّنذاك " ليس هنالك شيء اسمه نبدأ من جديد. لا أحد يبدأ من جديد حتى وإن غادر الوطن"
ولأؤكد وأضيف:
" خصوصاّ إن غادر الوطن..."
أسأل عنه، فيخبروني أن رجلاً في الخمسين اسمه جابر قضى عمره باخلاص على شباك المغادرين في المطار، كان قد طلب صباح اليوم بالذات نقله إلى قسم القادمين فيرى عيون لهفة الرحيل كيف تتحول عائدة الى دموع من الشوق...
بقلم فرح جبجي
“~~~~”
أبو أحمد سواق التكسي
الكل يعرف من هو أبو أحمد. إذا سألت عنه عند أي من أهل الحي، سيخبرك البعض عن أخلاقه التي قلما اجتمعت في إنسان واحد، من صدق وشهامة و تواضع وما إلى ذلك. ولكن الأهم من ذلك كله، سيخبرك البعض عن حياته. أبو أحمد سواق تكسي، كما يقول المثل، “إنسان مكفي، سلطان مخفي”. يعيل أمه وإخوانه، وقد أخذ منحة في الجامعة لتفوقه. أبو أحمد هو من أولئك المواطنين الذين أدوا جميع واجباتهم تجاه دولته، تجاه عائلته، وتجاه نفسه.إذا سألت أي من سواقي التكسي، سيقول لك أن حياته عبارة عن “السيجارة وكاسة القهوة”, إلا أبو أحمد، لأنه صاحب هدف في حياته، وعائلته أولى أولوياته. نعم، الكل يعرف من هو أبو أحمد، ولكن هذا من أجل سبب آخر،غير أخلاقه ومثابرته، بسبب قصة غيرت له حيات
في هذه الحياة، يوجد تيار، يجرني ويجرك، ويجر جميع من وطأ الحياة. إن هذا التيار قوي جداً لدرجة أنه يجر الأعداد الهائلة من الكتل البشرية إلى حيث لا يعلمون. قد يوصلك هذا التيار إلى بر الأمان، فتكون من المحظوظين، لكنه أيضا قد يوصلك إلى نقطة تغير لك كل حياتك… نقطة الهاوية. لقد بدأ الأمر كله عندما سحبت المنحة من أبي أحمد، هذا بسبب مديونية الجامعة التي كان أبو أحمد يرتادها. يقولون أنه بسبب المصاريف الزائدة، ولكن لا أحد يعرف السبب. وهكذا لم يعد أبو أحمد قادراً على دفع تكاليف الجامعة، مما اضطره إلى تركها.
ومع مرور الأيام، ازدادت المصيبة شاناً على أبي أحمد. قررت الحكومة رفع الضرائب، مما قلص دخل أبي أحمد، وبالتالي قدرته على إعالة نفسه و عائلته. ومع غلو الأسعار وغيرها من التجليات التي لاحقت الأزمة، أدرك أبو أحمد أنه يجاري تياراً لا يستطيع إيجاد أي منفذ للخروج منه.
بدا لأبي أحمد أن العالم كله قد انقلب ضده. وفجأة لم يجد أبو أحمد أحدا يقدم له يد العون. لقد وجد نفسه وحيداً في عزلة هذه الحياة، لا يعلم إذا يبكي على نفسه أم عائلته. لقد أدى جميع واجباته، وهذا الذي أخذه بالمقابل.
يقولون أن الزمن يداوي كل الجراح، ولكن، كثيريون من يجير عليهم الزمان. إذا صدف وأن كنت تمشي في الشارع ، قد تستطيع أن تجد أبي أحمد. الإنسان الذي كان يدرس في الجامعة بتفوق ويعيل عائلته، صاحب قصة نضال وكفاح حقيقية، صار الآن يدخن ويشتم، يرجع إلى البيت ليزيد من حاله سوءا حال عائلته البائسة، حاله حال الكثير من الناس الذين جار عليهم الزمان، بعد أن كانوا متفائلين بوطنهم وما يمكن أن يقدم لهم.
وفي يوم لا يختلف شيئا عن أيامه الأخرى البائسة، رأى أمامه رجلاً ينتظر سيارة أجرة في الشارع، فتوقف له أبو أحمد وركب معه. في بادىء الأمر، لم يرد أبو أحمد إركاب أي أحد،ولكن الرجل لا يزال، في نهاية المطاف، زبوناً يحمل معه لقمة عيشه وعائلته، فوجد نفسه مجبراً على أن يقله. وهكذا بعد حدد الراكب وجهته، غاص أبو أحمد في صمت عميق…
لقد كان لأبي أحمد فلسفة في الحياة، هي أنها إذا عشت بسيطاً، عشت هنيئاً. أبو أحمد شوفير تكسي، عمله بسيط، وهدفه في الحياة بسيط. كل ما كان يحلم به هو أن يعيش هو و عائلته حياة هانئة بسيطة، وألا يحرم إخوته وأمه من لذة الحياة. ولكنه الآن أحس بأنه على وشك فقدان هذه البساطة، عندما نزل الراكب وهم بمشواره بعيدا عن السيارة، غير مدرك أنه قد نسي حقيبته. أراد أبو أحمد أن ينادي صاحب الحقيبة، الذي أضحى بعيداً عن مرآه، ولكنه، ولمجرد وهلة فقط، خطر بباله فكرة جهنمية، لم يعتقد أبداً أنها قد تخطر بباله، عندما فتح الحقيبة ورأى فيها الكم من النقود…
إنه في تلك اللحظة نفسها التي أحس فيها أبو أحمد أنه على وشك أن يخسر تلك البساطة التي تربى عليها، والتي تربى عليها أباؤه وأجداده. إنه في تلك اللحظة، كان أبو أحمد قد وصل إلى حفة الهاوية، تلك النقطة المولحة بالتدمير، التي توهم الإنسان بأنه لا سبيل إلى الرجوع، إلا إذا أغلقت عينيك وقمت بالقفز من الهاوية. عندئذ، توقف العالم من حوله بعد أن كان قد انقلب ضده. وأبو أحمد ما زال غائصاً في صمته، ينظر إلى الطريق الوعرة برهة، وإلى حياته برهة ..
انظر إلى نفسك يا أبو أحمد، انظر ما آلت بك الحياة، لم يعد بيدك شيء، حتى عائلتك باتت جماعة تذكرك بهمك و تعاستك، متى نظرت إلى عينيها نبهتك بقيمتك المعدومة. أصبحت نكرة، نكرة! لم يعد لديك إلا هذه الخردة، تقودها ساعة بعد ساعة، يوماً بعد يوم، تقلّ كل من يشير إليك بيده إلى وجهته، وأنت الآن لا تعرف وجهتك! إلى أين أنت ذاهب؟ إلى أين؟ يا حسرتي عليك يا أبو أحمد.
عندها تغير وجه أبي أحمد … ولكن، هل ممكن أن تسرق؟ ربما استطعت مساعدة عائلتك التعيسة التي لا ذنب لها أمك... التي كرست حياتك لتربيتك أنت وإخوتك، وإخوتك الذين أصبح همهم الأول البحث عن لقمة العيش. ولكن هل مستعد على التخلي عن كل المبادىء التي تربيت عليها وعشت طول سنيك بناءً عليها؟ هذا ليس من طباعك يا أبي أحمد.
عندها أمسك أبو أحمد المقود بقوة نابعة من ألم، ومن ثم عن صرامة. ولكن أي طباع؟ لقد عشت طول حياتك وأنت ملتزم بهذه المبادىء والأخلاق, ولكن لماذا؟ ماذا أعطاك هذا الوطن بالمقابل؟ لقد أفنيت سنين عمرك متفائلاً متأملاً بأنه لا بد من أن يكون للخلق والمبادىء فائدة، ولكن ليس هذا هو العالم الذي تعيش فيه الآن. استفق يا أبو أحمد، استفق! لقد خسرت كل ما كنت تعيش من أجله. لماذا؟ لماذا..؟
و كالصمت الذي يسبق العاصفة، مرت الأيام بهدوء، إلى أن دق الباب، ففتحت أم أبي أحمد الباب، وإ?
?ا بشرطي يدخل الدار ويبادر بالكلام:
“هل هذا بيت أبو أحمد” ؟
“نعم، ليش عم بتسأل، في إيشي” ؟
“مين بتكون حضرتِك” ؟
“أنا أمو لأبو أحمد، ليش إيش في…” ؟
نعم، الكل يعرف من هو أبو أحمد. هو ما زال شوفيير التكسي الذي ينقل الناس إلى وجهتهم، الطالب الذي يذهب إلى جامعته في النهار، ويعيل عائلته في الليل. إذا سألت أي أحد عن أبو أحمد، سيخبرك البعض عن أخلاقه، عن صفاته التي قلما وجدت في شخص واحد، وسيخبرك البعض الآخر عن قصة مثابرة وكفاح حقيقية عاشها أبو أحمد ليعيش وتعيش عائلته. ولكن هناك البعض الآخر الذي سيخبرك عن شيء آخر، قصة أخرى لأبي أحمد، حدثت عندما دخل أبو أحمد الباب، فإذ به يجد جميع عائلته في غرفة الجلوس، شاحبي اللون، جالسين كجثث أموات هامدة. أمه وإخوته، كلهم ينظرون إلى